وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ
سورۃ البقرة, آيۃ 83
مدرسة على ما يرام، محيط نظيف، أشجار خضراء تحيط بالساحة، يصعب التصديق كيف أن الصمت يصرخ في مكان يعجّ بالطلاب. كانت استراحة الظهيرة، كان المعلّمون يتجوّلون في الساحة وفي الممرّات، وجلس بعضهم في غرفة المعلّمين يتجاذبون أطراف الحديث ويتبادلون الأفكار والمعلومات، وكان مدير المدرسة يجلس في الغرفة المجاورة. وفجأة، سُمع صوت صراخ مرتفع مزّق الصمت… اقتحم والد أحد الطلاب الباب وهو يصرخ תيهدّد ويوجّه كلامه الفظًّ إلى أحد المعلّمين.
طلب المعلّم من الوالد أن يجلس ويتحدث بهدوء. لكن يبدو أن طلب المعلّم دعا الوالد إلى مزيد من الصراخ. دَهِش الطلاب مما يشاهدون، فوجئ المعلّمون ولم يصدّق المدير ما تراه عيناه وتسمعه أذناه. دعا المدير الوالد الهائج والمعلّم إلى غرفته قائلا: “أرجو أن تتبعني إلى غرفتي لنفهم ما المشكلة بالضبط، ونرى ما إذا كان بوسعنا مساعدتك”. وفي غرفة المدير تبيّن أن ابن هذا الوالد حصل على علامة رسوب في امتحان الرياضيات رغم أنه طالب ذكيّ ومجتهد. ثم أضاف : “المعلّم هو المذنب، هو الذي رسّب الطالب بسبب سلوكه”. ردّ المعلّم على الوالد قائلاً: ” إن الطالب ولد ذكيّ فعلاً، لكنه سيء الأخلاق ويتصرف بشكل شاذّ ويُثير الكثير من المشاكل مع زملائه في الصف، مما جعله لا ينتبه ولا يركّز في الدروس، وقد انعكس ذلك على اجتهاده ونتائج امتحاناته وليس في الرياضيات فحسب. ثم أضاف: “وفي الفترة الأخيرة أصبح عدوانيًّا بشكل خاصّ، والعلامة التي حصل عليها هي العلامة التي يستحقها بناء على ما كتبه في الامتحان وليست تقييما لسلوكه”.
عندما فهم الأب الحقيقة هدأ وراح يعتذر للمعلّم وقال بأن ابنه حكى له حكاية مختلفة تمامًا. أضاف الوالد: “كان عليّ أن أسألك قبل أن أصرخ، أنا آسف وأرجو أن تقبل اعتذاري”. عندها توجّه المدير إلى ولي أمر الطالب وتكلّم معه عن التغيير السلبيّ الذي طرأ على تصرفات ابنه في الفترة الأخيرة. وأضاف المدير قائلاً إنه الآن يفهم سبب هذا التغيير، وأنه هو وحده مَن يستطيع مساعدة ابنه. نظر الوالد إلى المدير وطلب منه أن يوضح له ما الذي يقصده وكيف يمكنه يُساعد ابنه فعلاً على أن يكون ولدًا هادئًا ولطيفًا ويُبعده عن العدوانية والسلوك الشاذّ.
أوضح له المدير أن الكثير من الأولاد صورة طبق الأصل عن والديهم لذلك يقول المثل الشعبي ” فرخ البط عوّام” ويقول مثل آخر “هذا الشبل من ذاك الأسد” ويقول الشاعر: ” ينشأ الصغير على ما كان والده إن العروق عليها ينبت الشجر”
ما أريد أن أقوله هو أن الولد يقلّد تصرفاتك، فإذا كنت تعامله بعنف فسيتعامل هو بعنف مع محيطه. أنا أعتقد أن أسلوبك، الطريقة التي دخلت بها إلى المدرسة، هي الطريقة التي قد يتبناها ابنك. من المهمّ جدًّا التعامل بأدب مع الآخرين والتحدث بكلام طيب، طبقًا لما جاء في القرآن الكريم، في الآية 83 من سورة البقرة: ” وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا… .” كما قال صلى الله عليه وسلّم : إنّما بُعِثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق” ويقول في حديث آخر لا أذكر نصه الحرفي أن الشجاعة ليست في البطش وقوة الذراع بل في ضبط النفس وكبح جماحها أو كما قال.
لقد كان المدير مُحقًّا، فعلاً. لنا أن نفترض أن هذا الوالد يتعامل مع أفراد أسرته على نحو شبيه، رغم أنه، خارجيًّا، يبدو أنه يدافع عن ابنه. على أية حال، الابن يشاهد سلوك أبيه ويعتبره مثلاً يُحتذى، فلا عجب أنه يتعامل على نحو شبيه مع زملائه في الصف. ليس من السهل، دائمًا، ضبط النفس والتحلي بالصبر. وذلك ليس سهلاً، بالتأكيد، عندما نكون مُحبَطين وغاضبين، مثلما حدث مع الأب. بفضل ردود الفعل المعتدلة والمُتأنّية من جانب المعلّم والمدير، كان بإمكانهما أن يهدئا من هيجان وثورة الوالد ويجعلاه يتراجع ويعتذر. ولو ردّ المعلّم والمدير بالهجوم على تهجّم الوالد لكانت المشكلة قد تفاقمت أكثر. قابل المعلم والمدير الأبَ الغاضب بسكينة ووقار يليقان بهما كمربيين فاضلين، ولربّما كانا حزينيْن أيضًا بسبب تصرفات ولي الأمر وما انتابه من شعور. التذكير بالآية القرآنية الكريمة "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا" في لحظات الغضب هذه، من شأنه أن يُهدّئ الخواطر وأن يُحدث تغييرًا إيجابيًّا في العلاقات بين الناس بشكل عام. بعدها يكون بالإمكان أن تناقش المواضيع المختلف عليها في جوّ هادئ ولطيف كما فعل المدير عندما شرح للوالد مفهومه لتصرفات الولد التي هي انعكاس لتصرفات والده. وقد قدّم المدير وأسدى النصيحة إلى الأب بشكل غير مباشر ليغير من تصرفاته كما علمه كيف يمكنه أن يساعد ابنه.