أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا
سورة النّساء، الآية 78
سميرة طالبة في الصفّ الرّابع متفوّقة في دروسها وفي جميع النشاطات المدرسيّة. قبل خمسة أشهر تقريبًا أخذها والِدها لإجراء بعض الفحوصات في المستشفى القريب. في الطريق انحرفت عن مسارها سيارةٌ كانت تسير في الاتّجاه المُقابل واصطدمت وجهًا لوجه بسيارة والدها. كان الاصطدام قويًّا توفّي على أثره الوالد في الحال، أما هي (سميرة) فقد أصيبت بجروح طفيفة بفضل جلوسها، وهي تربط الحزام، في المقعد الخلفي. عندما عادت سميرة إلى المدرسة بعد شهر تقريبا من الحادث، ظهرت بوضوح تغييرات بارزة في شخصيّتها وتصرّفاتها. فقد أصبحت طالبة غارقة في الصمت، وقد كفّت عن الاشتراك في الدروس وتوقفت كليّة عن المشاركة في جميع النشاطات والفعاليات اللا – منهجية كما تدنّت علاماتها بشكل ملموس جدًّا .
عندما كانت المدرسة تدعو إلى جلسة لأولياء الأمور أو عندما كانت المربية تطلب توقيع أولياء الأمور على فعالية ما خارج المدرسة، كانت سميرة تنفجر بالبكاء. وكلما حاولوا تهدئتها كانت تتذكّر والدها وتتّهم نفسها بأنها كانت السّببَ في موته، وتعود لتعيد وتكرّر مقولتها التي حفظها الجميع: “لولا فحوصاتي لما سافَرنا في ذلك اليوم المشؤوم، أنا المسؤولة، أنا السبب في موته، لم يَعُد للحياة طعم ولا أمل لي فيها بدون أبي” ثمّ تعود لتجهش بالبكاء وهي تتمتم “أنا السبب، أنا السبب”.
بدأت المربية تخشى على سميرة من أن تقوم بإيذاء نفسها أو أن ترتكب جريمة بحقّ نفسها، لذلك حوّلتها إلى المستشارة التربوية في المدرسة بعد أن أطلعت المستشارة على مخاوفها.
دخلت سميرة غرفة المستشارة وحكَت لها قصّتها وعندما بدأت سميرة تجهش بالبكاء وتتّهم نفسها بموت أبيها فتحت المستشارة المصحف الشريف الذي كان أمامها على الآية الكريمة رقم 78 من سورة النساء وطلبت من سميرة أن تقرأ هذه الآية بتروٍّ وتأمُّل: ” أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ” سألت المستشارةُ سميرة: “ماذا تفهمين – يا سميرة- من هذه الآية؟” أجابت سميرة بعد أن مسحت دموعها: “أفهم من هذه الآية بأنَّه إذا قضى الله الموت على إنسان معيّن فإنّ هذا الإنسان لا يستطيع الفرار إلى أي مكان من قَدَر الله عزّ وجلّ، فأينما يذهب وأينما يختبئ فسيدركه الموت في الوقت الذي حدّده له الله تعالى.” قالت المستشارة: “جميل جدًّا، لقد أحسنت فهمَ هذه الآية، ولكن، ماذا يعني ما قلتِه الآن بالنسبة لما حدث معك ومع والدك، رحمه الله؟” أجابت سميرة وهي تمسح آثار الدّموع في عينيها وقد بدأت تتسلّل ابتسامة خفيفة إلى شفتيها: “إنّ هذا يعني أنّني لست أنا المذنبة في موت أبي، إذ أنّ ذلك كان قَدَر الله ومشيئته، أنا لست السبب، أنا لست السبب!” قامت سميرة وهي تكررها وتكرّرها وقد اتسعت الابتسامة على شفتيها فبادلتها المستشارة الابتسامة وربّتت على كتفيها وهي تودّعها عند الباب.
في حالات كثيرة يشعر الأولاد (وفي حالات كثيرة جدا تشعر البنات) بالذنب على أمور ليسوا مسؤولين عنها ولا يملكون السيطرة عليها. اعتقدت سميرة أنها قتلت والدها لأنه بحسب المنطق الذي فكّرت فيه ما كان والدها ليموت لو أنه لم يسافر في ذلك اليوم من أجل إجراء الفحوصات لها. من الصعب عليها أن تفكّر بأنّها لا تملك السيطرة على ما حدث لوالدها وما لا تملك السيطرة عليه لا يكون ضمن مسؤوليتها. يمكننا، بالطبع، أن نفسّر لها ما حدث بطرق أخرى. يمكننا أن نقول لها مثلا بأنّ أبيها يمكن أن يكون متورطا في حادث طرق كهذا الذي حدث في مكان آخر وفي وقت آخر ودون أن تكون معه أو دون أن يسافر من أجلها. كذلك يمكننا أن نقول لها بأنّ الأولاد يطلبون دائما مرافقة والديهم إلى أماكن كثيرة وهذا لا يحوّلهم إلى مسؤولين عمّا يحدث في الطريق أو عن طريقة سياقة السائقين. يمكننا أن نقول لها كم ترغب أن تكون الأمور تحت سيطرتها إذ لو كان الأمر كذلك لكان بإمكانها إنقاذ أبيها. ولكن لا شيء من هذا يقترب في تأثيره وفعله في النفس من آية قرآنية تقرر بأنَّ الله هو الذي يحدّد الآجال وليست سميرة الطالبة في الصف الرابع. من الآن فصاعدًا لن تعيش سميرة وهي تحمل في قلبها عبئا ثقيلا من جراء شعورها بالمسؤولية عن موت أبيها. من المهم أن نشير إلى أنه لا ينبغي علينا استعمال هذه الآية في كل حادث موت وبالذات في كل جريمة قتل. في الحالات التي يتسبب فيها سائق بموت شخص ما لأنه يسوق وهو سكران مثلا أو في حالات القتل العمد مع سبق الإصرار لا نستعمل هذه الآية بل نحمّل المسؤولية للجاني. في مثل هذه الحالات نلجأ إلى آيات أخرى من القرآن الكريم التي تتحدّث عن مسؤولية الإنسان عن أعماله.