وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
سورۃ البقرة, آيۃ 237
رامي وريما متزوجان منذ سنة ونصف. يحبّ كلٌّ منهما الآخر ويدعمه ويسنده وكلُّ من يعرفهما يطري على تفاهمهما وعلاقتهما الحسنة وعلى كونهما زوجين مثاليّيْن. إلا أن عين الحسد أبت أن تتركهما على هذه الحال من السعادة والتوفيق، مما جعل علاقتهما القائمة على المحبة والاحترام تسوء شيئا فشيئا حتى انهارت كليّة.
في أحد الأيام أرادت ريما أن تفاجئ زوجها المحامي وتزوره في مكتبه. فتحت ريما باب المكتب دون أن تطرقه تريد أن تفاجئ زوجها وإذا بها تفاجَأ به يعانق سكرتيرته. ذُهلت من شدّة المفاجأة وهرعت تركض هاربة من المكان وهي تولول وتبكي. خرج رامي في أعقابها ليحاول أن يشرح لها الموضوع، ولكن كل توسلاته ومحاولاته لم تُجدِ نفعا. رفضت ريما الإصغاء لأقواله. واتهمته بخيانتها مع سكرتيرته وطلبت منه أن يطلّقها. وعندما وصلت إلى المنزل بدأت تجمع حاجياتها وغادرت منزل الزوجية إلى منزل والديها.
حاول رامي مرة ثانية وثالثة أن يتحدّث معها وطالبها بالهدوء وتحكيم العقل لأنها – حسب أقواله – تظلمه كثيرا. فهي لم تفهم الوضع الذي وجدته عليه مع سكرتيرته. طلب منه ريما أن يتركها وشأنها وأقسمت بأنها لن تعود إليه أبدًا لأنه مخادع وغشّاش وخائن. حاول رامي مرات أخرى أن يراضيها وأن يشرح لها الموضوع بكل طريقة ممكنة ولكن باءت كل محاولاته بالفشل، إذ أن ريما صمّت أذنيها عن سماع أي شيء منه وكل ما طلبته “طلِّقني، طلِّقني …”
بعد حوالي شهر من هذه الحادثة وعندما كانت ريما تتجوّل في المجمع التجاري التقت صدفة بسكرتيرة رامي. تقدّمت إليها السكرتيرة وطلبت أن تتحدّث معها، وأن تعطيها فرصة لتوضيح الموقف. إلا أن ريما رفضت. توسّلت إليها السكرتيرة ورجتها مرارا وتكرارا حتى وافقت ريما على الجلوس معها في أحد المقاهي والاستماع إلى أقوالها. حكت السكرتيرة لريما أنه في ذلك اليوم الذي حضرت فيه إلى المكتب ووجدت رامي يعانقها، كان ذلك عناقا أخويًّا، عناقا بين أخوين، عناقا يعبر عن الدعم والمواساة. سألت ريما: “ماذا تقصدين بالمواساة؟” حكت لها السكرتيرة بأنّها في ذلك الوقت، قبل دقائق من وصول ريما، وصلها عن طريق التلفون خبر موت أعزّ صديقاتها في حادث طرق خلال رحلة كانت تقوم بها في الخارج. عندما رآها رامي تبكي وتنتحب حاول مواساتها ومساندتها وقد عبر عن ذلك بعناقها وفي هذه اللحظة دخلت ريما …
لأول وهلة لم تصدّق ريما هذه القصة وظنّت أنها محاولة للتدليس عليها ولكنّ السكرتيرة أقسمت لها ثم أخرجت لها بعض الأوراق التي تثبت صحة أقوالها. ندمت ريما لأنها صمّت أذنيها ولم تُصْغِ لتوسلات زوجها ولأنها لم تعطِه الفرصة ليوضّح لها الأمر. لم تعرف ريما كيف تتصرف الآن، وخاصة أنها أدركت أنها قد أساءت إلى رامي إساءة عظيمة وجرحت كبرياءه، ترى هل يسامحها ؟ هل يقبل مصالحتها ؟ هل يقبل الحديث معها ؟
ريما امرأة ذات عزة نفس وليس من السّهل عليها أن تعترف بخطئها وأن تعتذر، في رأيها الاعتذار دليل على ضعف الشخصية ومن المحتمل أن يستعمله الآخرون ضدها. لم تعرف ما العمل. بقيت تفكّر طوال عطلة نهاية الأسبوع وقد شاورت أمها كي تساعدها على إيجاد مخرج من هذه الورطة. بعد تفكير قالت لها أمّها : ” وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ” فهمت ريما ما قصدته أمها من تذكيرها بهذه الآية الكريمة والتي تعني أن تسامح الرجال والنساء فيما بينهما أقرب إلى خشية الله وطاعته وأن لا تنسوا أيها الناس (رجالا ونساء) الفضل والإحسان الذي بينكم والمتمثل في إعطاء ما ليس بواجب عليكم والتسامح والتنازل في الحقوق. إنّ الله بما تعملون به بصير، يُرغّبكم في المعروف ويحثّكم على الفضل. لذلك سارعت ريما إلى الاعتذار إلى رامي الذي ظلمته باتهامها له بالخيانة وعلى ما سببته له من إحراج. سامحها رامي ولكنها لم تقل له حتى يومها هذا ما الذي دفعها إلى تغيير موقفها وأقنعها بالاعتذار والعدول عن إصرارها على الطلاق.
الناس بطبيعتهم لا يميلون إلى التنازل. كل واحد يريد أن يكون هو المنتصر وأن يكون هو الرابح وأن يكون ربحه كاملا، كما أن الناس بطبيعتهم لا يحبون الاعتذار إذ يرون فيه جَرحًا لكرامتهم وعزة أنفسهم وبكونهم دائما على حقّ. ولكن بدون تنازلات وبدون العفو والتسامح لا وجود للعائلة ولا حتى للمجتمع لأن الشخص الكامل لم يخلق بعد والكمال لله وحده وكلنا بشر وكل البشر معرضون للخطأ. وهنا تأتي هذه الآية الكريمة لتقول لنا : " وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " وهي بذلك تدعو بل وتحثّ على العفو والمسامحة والتنازل. عليك أن تتنازل لأنك لست دائما على حق وغيرك دائما على خطأ والتنازل والعفو هما اللذان يمكننان استمرار العلاقات بين الناس ويمكننان الحياة من أن تسير في مسارها القويم. وهذا ما قالته أم ريما لبنتها : " عندما تتنازلين عن كبريائك وتتواضعين فأنت تقومين بعمل جبّار ونحن نعلم أن الأقوياء فقط هم القادرون على التنازل (العفو عند المقدرة)" وهكذا تنجح هذه الآية الكريمة في منع وقوع الطلاق بين رامي وريما الزوجين السعيدين اللذين مرّت من فوق عشّهما غمامة سوداء عّكرت لفترة وجيزة صفاء حياتهما.